هي شخصية أقرب إلى الفنان الذي يؤدي دور البطولة على خشبة المسرح، مدة ظهوره هي 30 يوما فقط في ليل رمضان، أما باقي الأبطال فهم الطبلة والعصا وصوت جهوري ينادي ويتغنى.. إنه "المسحراتي" تلك الشخصية التي ينتظرها الناس كل رمضان لإيقاظهم في موعد تناول السحور.
إنها تلك المهنة الشعبية التي تعتمد على الكلمات والأناشيد والطقوس الخاصة البسيطة..
فهي المهنة المحببة إلينا والمحفورة على جدار ذكرياتنا منذ نعومة أظافرنا والتي يرتبط بها الأطفال قبل الكبار.
مسحراتي ومسحراتية
ورغم أن وسائل الإعلام الحديثة أثرت على المسحراتي وجعلته في طريقه للانقراض فإنه لا يزال يتمسك بعاداته وما زال مرتبطا بقلوب الناس؛ فهذا هو "عبد الله عبد التواب" أحد المسحراتية في مصر ، رغم أنه تعدى الستين عاما فهو ما زال متمسكا بمهنته، نجده كل ليلة من ليالي شهر رمضان مرتديا جلبابه ، متجولا على قدميه ، ممسكا طبلته ، مناديا بنداءات مختلفة.. ففي أول 10 أيام من رمضان ينادي: "جئت يا شهر الصيام بالخير والبركات"، و الأيام العشرة الثانية ينادي: "يا نصف رمضان يا غفران الذنوب"، ثم في العشر الأواخر ينادي: "وداعا يا رمضان يا شهر الكرم والإحسان".. أما آخر أيام الشهر فهو "يُوحش" رمضان بمعنى أنه سوف يشتاق إليه؛ فنسمعه يقول: "يا وحشة لك يا شهر الصيام"..
ورغم اقتصار مهنة المسحراتي على الرجال فقط منذ أن بدأ ظهورها فإننا في القرن الحادي والعشرين نجد الآن المرأة تنافس الرجل على هذه المهنة؛ ففي تركيا قامت إحدى البلديات بتدريب فتيات على عمل المسحراتي لكي يقمن بالتجول في الشوارع في ليالي رمضان لتنبيه الصائمين للسحور، والهدف من ذلك إثبات أن المرأة قادرة على منافسة الرجل في كل مجالات العمل، إضافة إلى مساعدة الفتيات على التغلب على الخوف من السير في الشوارع ليلا!
أما في وطننا العربي وتحديدا في مصر فقد وجدنا أن المرأة تعمل مسحراتية بالفعل، وليس عن طريق البلديات بل عن طريق "توارث المهنة" من الآباء.
فإحداهن تدعى " أم سحر" تعمل في هذه المهنة منذ أن كانت طفلة، فوالدها وجدّها كانا يعملان في "التسحير"، ومنهما تعلمت هذه المهنة، فمنذ أن كان عمرها 5 سنوات عملت مساعدة لأبيها.. وقد شغفت بهذه المهنة لأن أباها كان يدق على طبلة صغيرة يحملها في يده ويقوم بالنداء على أهالي بلدته؛ لذا فقد أحبت صوت هذه الدقات التي كان الناس يقابلونها بالترحاب والسرور، بل المشاركة في النداء، وخاصة من جانب الأطفال.
تقول: "البعض يعتقد أن تجولي ليلا لإيقاظ الناس شيء غريب، ولكنني أحب مهنتي، كما أن الناس يعرفونني جيدا ولم أشعر بالخوف مطلقا؛ فأنا أشعر بالأمان".
وتضيف: "لقد تغيرت الأوضاع الآن، وكثر عدد الناس؛ لذا فقد تغيرت الطبلة الصغيرة وأصبحت أحمل كبيرة الحجم حتى يصل صوتها إلى الأماكن البعيدة".
كيف ظهر المسحراتي؟
بداية كان المسلمون يعرفون وقت السحور في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام بأذان "بلال بن رباح"، ويعرفون الامتناع عن الطعام بأذان "عبد الله ابن أم مكتوم"؛ فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم.
وفي مكة كان "الزمزمي" ينادي من أجل السحور، وكان يتبع طريقة خاصة بحيث يرخي طرف حبل في يده يتدلى منة قنديلان كبيران حتى يرى نور القنديلين من لا يستطيع سماع ندائه من فوق المسجد.
ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية تعددت أساليب تنبيه الصائمين، حيث ابتكر المسلمون وسائل جديدة في الولايات الإسلامية من باب أن التنبيه على السحور دلالة على الخير وتعاون على البر، ومن تطوع خيرا فالله يخلفه.
من هنا ظهرت مهنة المسحراتي في عصر الدولة العباسية، وفي عهد الخليفة المنتصر بالله. ويذكر المؤرخون أن المسحراتي ظهر إلى الوجود عندما لاحظ والي مصر "عتبة بن إسحاق" أن الناس لا ينتبهون إلى وقت السحور، ولا يوجد من يقوم بهذه المهمة آنذاك؛ فتطوع هو بنفسه لهذه المهمة فكان يطوف شوارع القاهرة ليلا لإيقاظ أهلها وقت السحر، وكان ذلك عام 238 ه، حيث كان يطوف على قدميه سيرا من مدينة العسكر إلى مسجد عمرو بن العاص في الفسطاط مناديا الناس: "عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة".
وفي عصر الدولة الفاطمية أصدر الحاكم بأمر الله الفاطمي أمرا لجنوده بأن يمروا على البيوت ويدقوا على الأبواب بهدف إيقاظ النائمين للسحور، ومع مرور الوقت تم تخصيص رجل للقيام بمهمة المسحراتي كان ينادي: "يا أهل الله قوموا تسحروا"، ويدق على أبواب المنازل بعصا كان يحملها في يده.
تطورت بعد ذلك ظاهرة التسحير على يد أهل مصر؛ حيث ابتكروا الطبلة ليحملها المسحراتي ليدق عليها بدلا من استخدام العصا، هذه الطبلة كانت تسمى "بازة" وهي صغيرة الحجم يدق عليها المسحراتي دقات منتظمة، ثم تطورت مظاهر المهنة فاستعان المسحراتي بالطبلة الكبيرة التي يدق عليها أثناء تجوله بالأحياء وهو يشدو بأشعار شعبية وزجل خاص بهذه المناسبة، ثم تطور الأمر إلى عدة أشخاص معهم طبل بلدي وصاجات برئاسة المسحراتي، ويقومون بغناء أغان خفيفة حيث شارك المسحراتي الشعراء في تأليف الأغاني التي ينادون بها كل ليلة.
ومن أشهر هذه الأشعار:
اصحى يا نايم وحد الدايم..
وقول نويت بكرة إن حييت..
الشهر صايم والفجر قايم ورمضان كريم..
ولما للمسحراتي من طقوس وأشعار؛ فقد أصبح شخصية محببة للصغير قبل الكبير، وقد ارتبط فانوس رمضان بالمسحراتي؛ حيث كان الأطفال يحملون الفوانيس حول المسحراتي في الليل ويغنون على أنغام الطبلة مثل:
حالو يا حالو رمضان كريم يا حالو..
فك الكيس وإدينا بقشيش..
يا تروح ما تجيش يا حالو..
ومن مصر انتشرت هذه المهنة في الولايات الإسلامية، فقد كان أهل الشام ذوي طقوس خاصة تحيط بالمسحراتي؛ حيث كان المسحراتية في الشام يطوفون على البيوت وهم يعزفون على العيدان والصفافير وينشدون الأغاني الخفيفة.
وفى بغداد كان "ابن نقطة" أشهر من عملوا بالتسحير، حيث كان موكلا إليه إيقاظ الخليفة الناصر لدين الله العباسي، فقد كان ابن نقطة يتغنى بشعر يسمى "القوما" مخصص للسحور، وهو شعر شعبي له وزنان مختلفان ولا يلتزم فيه باللغة العربية، وقد أطلق علية اسم القوما لأنه كان ينادي ويقول: "يا نياما قوما.. قوما للسحور قوما"، وقد أعجب الخليفة بسلامة ذوقه ولطف إشارته وأعطاه من الأجر ضعف ما كان يأخذه أبوه.
المسحراتي ظاهرة اجتماعية
يرتبط الناس بالمسحراتي منذ الصغر؛ فهو ظاهرة اجتماعية راسخة لديهم منذ القدم، ولكل منا ذكريات خاصة ترتبط بالمسحراتي.
يقول "همام عبد ربه": ارتبطت منذ طفولتي بالمسحراتي؛ حيث كنت أحمل الفانوس مع الأطفال وننتظر قدوم المسحراتي للخروج والتجول معه أثناء نداءاته، فكان ذلك مصدر سعادة لنا، وكنا نردد معه أيضا بعض نداءاته مثل: "الإمساك يا مسلمين يا موحدين"، و"ارفعوا الطعام يا صائمين"، أما الآن فلم يعد يحدث ذلك لاختفاء المسحراتي حاليا.
أما "محمد عبد الحفيظ" فيقول: أعتقد أن السبب في الارتباط بالمسحراتي هو دقات الطبلة التي كان يحملها في يده و دق عليها؛ فهي شيء غريب يجذب انتباه الأطفال ويجعلهم يتجولون مع المسحراتي ويصفقون ويتغنون معه، من هنا كانت العلاقة القوية بين الأطفال والمسحراتي، ما جعلنا نرتبط به عاما بعد عام.
يعلق على ذلك الدكتور "قاسم عبده قاسم" أستاذ تاريخ العصور الوسطى بجامعة الزقازيق فيقول: إن ظهور المسحراتي ارتبط بحاجة الناس إلى من يوقظهم من النوم في ليل رمضان، فلم يعرف الناس قديما وسائل الإعلام أو التنبيه، وكانت الوسيلة الوحيدة المتاحة هي القناديل التي تعلق بين مآذن المساجد ويستدل من نورها على وقت الامتناع عن الطعام.
وقد ارتبط المصريون بالمسحراتي وذلك لعدة أسباب، أهمها أن ظهور المسحراتي كان سببه العلاقات القوية أو الحميمة بين الناس في الحارات، والحارات هنا ليست بمفهومها حاليا، بل كانت تطلق على الأحياء؛ فالحارة تعني جزءا من المدينة له باب وحراس وكبير بمعنى شيخ حارة، فهذه الحميمية بين سكان الحارات في الفسطاط أدت إلى وجود من يتطوع لإيقاظ أهلها في ليل رمضان، وقد كان لكل حارة المسحراتي الخاص بها الذي يتطوع لتسحير أهلها كل عام.
كما أن المصرين قد حولوا رمضان إلى مناسبة اجتماعية بخلاف الشعوب الأخرى؛ فالمصري كان يغني للبلح مثلا وهو أحد مظاهر رمضان، كذلك صلاة الفجر ترتبط بالتسابيح والابتهالات.. فالصيام إذن لدى المصريين مناسبة ارتبطت بالأغاني ذات الصبغة الدينية، ومن ثم جاء ظهور المسحراتي ذي الصوت الجميل الذي يغني أثناء إيقاظه الناس في البيوت ومن حوله الأطفال ينشدون ويغنون ليرتبط به المصريون ارتباطا وثيقا، صغيرهم قبل كبيرهم.
المسحراتي.. تاريخيا
ويضيف الدكتور قاسم: لقد جذبت شخصية المسحراتي بعض الرحالة والمستشرفين الذين زاروا مصر على مر العصور؛ حيث تحدثوا عن تقاليده وشغف المصريون به، فالرحالة المغربي "ابن الحاج" الذي جاء إلى مصر في العصر المملوكي في عهد الناصر محمد بن قلاوون تحدث عن عادات المصريين وجمعها في كتاب وقال عن المسحراتي مبديا دهشته واستغرابه مما شاهد: إنه تقليد خارج عن الشرع لم يعرفه في بلاده، وذكر أن المسحراتي ينادي ويغني في شوارع القاهرة، أما في الإسكندرية فيطوف ويدق على البيوت بالعصي.
أما أبرز من تحدث عن المسحراتي فهو المستشرق الإنجليزي "إدوارد وليم لين" الذي زار مصر خلال القرن التاسع عشر في عهد محمد علي، وقد شغف شغفا كبيرا بعادات وتقاليد المصريين؛ حيث عاش بها فترة طويلة وتعلم اللغة العربية، وقد ذكر لين كيفية احتفال المصريين بقدوم رمضان، وتحدث عن عادات المسحراتي، بل إنه ذكر نصوص الأغاني التي يتغنى بها والنوتة الموسيقية الخاصة بكل أغنية.
استمع إلى المسحراتي بصوت الشيخ إمام عيسى
طالع أشعار المسحراتي